الأربعاء، 21 سبتمبر 2011

المُتَسَــــولُ ..

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمدٍ وآل محمد
السلام على مولاتي التي أسير على خُطاها وأرنو لرضا الله تعالى برضاها
((الصديقة الزهراء عليها السلام))

رأيته بالأمس .. هو , بكيانه , بملامحه التي تُصيبني بالقشعريرة , بكل وجوده الذي يفجر إشمئزازي الصاخب من وجوده العابث في حياتي , من كل ذكرياته الملتفة حول عنقي تغرس اشواكاً من الشجو لتمنع الأوكسجين من بلوغ رئتي ,
سنوات طوال مررن على كل ماجرى بيننا وأحداث كثيرة وقعت , أغلب ماحولنا تغيير بما في ذلك قصري الذي تحول بين ليلة وضحاها إلى خربة رطبة وآيلة للسقوط تجعلني أصافح المطر في الشتاء وأصادق الحر في الصيف ,
 زوبعة شرر إنطلقت من عيني ماكان لها تفسيرٌ سوى إنها غضبٌ شبيه بغضبي السابق قبل عشرين عاماً عندما كنت مزهوة بزينة الحياة الدنيا وهي تغرقني بلذة التمسك بالبقاء والغرق فيها والتعالي على كل من لايملكون أحد قسميها بما في ذلك هو حينما كان ينتظر خروجي من شركتي الخاصة محفوفة بالأخوة والزوج والأقارب والموظفين الذين لايملكون غير التملق لي حتى أفقدوني قدرتي على رد سلام بسطاء الناس أو النظر إليهم كإدنى حد! , فمن هم ومن هو بالذات ذلك الشاب الذي فقد قدمه اليمنى نتيجة إنفجار لغم أرضي حرمه من عمله وهو أبن ثمانية وعشرين عاماً ولايمتلك قوت يوم لإعالة ثلاث أخوات وأم لإرد عليه سلامه أو أرى طلبه أو أقتطع دقائق من وقتي المحشو بضوضاء الارقام والحساب لإحادثه , إنه قادمٌ للإستجداء , فثيابه التي غبرتها الأيام وأكلت عليها صيحات الموضة السحيقة أوحت لدماغي المتعجرف بذلك , ولأنه كان يحاول وبشدة محادثة أخوتي وزوجي وإنا في إنتظارهم بمقعد السيارة الخلفي ويسرق وقتاً لايُستهان به من لهثي وراء العملات كنت أترجل وأوبخه وأهينه وأصب جام غضبي عليه .. ثم أصعد لسيارتي وأنا أتوق لإفراغ معدتي أكثر من توقي لإي شيء آخر نتيجة منظره المقزز ..

لم يكن شخصاً هاماً مطلقاً , بل هو قرين المنعدم , حتى عندما غاب لسنتين تقريباً ماكنت سأتذكر ذلك المتسول  لولا ترملي وثكلي بزوجي الذي رحل بمرضٍ قاتل كي أتصدق عن روحه , فمن الطبيعي إن لا أتذكره إلا في هكذا وقت لإن البشر لايتعظون بسهولة ولاتنبع إنسانيتهم إلا عندما يفقدون عزيزاً وتُكسر دواخلهم الفارغة , فيندمون بسرعة على ما مضى , ويحاولون ترميم مابقي من ذواتهم , لكنهم سرعان ماينسون ويعودن إلى اللاذكرى , وحتى أنا بعد إنتهاء عدتي وعودتي للتقوقع في عالم الأرقام والحسابات والربح والخسارة عدت لعهدي السابق فلم أكن أكترث للمتسولين ولا أجد أهمية لوجود الفقراء في حياتنا , بل كنت أؤمن بإنهم حشرات يجب إن تُباد قبل إن تصيب الأرض بتلوث إجتماعي نتيجة لتخالط البشر الفطري والذي لايستطيع أي إنسان أن يتغلب عليه لإنه فطرة أودعها الله تعالى في قلب كل آدمي (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) ..

قبل زواجي الثاني لم أكن أعرف الصلاة , ولم أكن أحفظ إلا آيات قلائل من القرآن , ولم أكن أخرج لإرفه عن نفسي مع طفليّ اليتيمين , بل إني لم أكن أفكر إلا بالمال , حتى إني لم أوافق على الزواج في البداية , وعندما وافقت لم أرَ العريس مطلقاً إلا في يوم عقد القرآن لإن الصفقات والمشاريع سرقتني من الترتيب لهكذا حدث ..

ومع هذه التغيرات الأجبارية التي خضعت لها بإصرار زوجي فإني بقيت من داخلي كما أنا , سلبية وعصبية , متكبرة , قليلة الكلام , وعلى الرغم من إني توقعت إن يتفهم زوجي التاجر الشاب غرق إمرأة مثلي في عالم المال صُدمت بعكسه , حتى إن صورتي عن رجال المال ونساء العمل تغيرت فدوماً ماكنت أتصورهم أشخاصاً مثلي , مشغولون ومتحيرون , قليلوا المكوث في البيت , يحبون الرسميات , ويتحدثون بلغة "نحن"تكريماً لإنفسهم الجوفاء!

خلق هذا جواً من المشاحنات والتوتر في علاقتي الزوجية , وغير مزاجي من السيء إلى الأسوأ وبكل بساطة بدأت أفكر بالطلاق بعد شهرٍ واحدٍ من الزواج , وكنت أعترف لنفسي فقط إن السبب يعود لي , وإنني أعاني من مشاكل نفسيه كثيرة , وعلي إن أحل هذا الرباط لكي لايُفتضح جنوني الداخلي ولإرحم زوجاً بمنتهى المثالية والرحمة ..

صارحت زوجي برغبتي في الإنفصال , قابل ذلك بهدوء تام ليس لإنه ضعيف الشخصية أو منعدم الرأي أو لايحبني , بل لإنه فهم وبذكاء حاد حالتي النفسية السيئة , وطلب مني أعادة التفكير بقراري و أخبرني بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ".... الطلاق يهتز منه العرش " , سخرت منه كثيراً , ونعته بعديم الرجولة , لكنه لم يحرك ساكناً وكنت أعلم إن وراء إن ماوراء هدوءه هو صبره على خُلقي السيء الذي سيهبه ثواب الشاكرين ..

مرت ثوانٍ قلائل ووردني بريد صاعق , فقد خسرت الشركة وأفلست , لإن أخي الشقيق , سرق كل مالدي وهرب , كانت لحظت عصيبة وأنا جالسة في مكتبي احاول أيجاد حل , أجمع وأطرح بدماغي وأضرب وأقسم على الورق , وأتحدث بإرقام أخرى بلساني وحولي ضوضاء موظفين تعربد بقول أرقامٍ أخرى , ولكنه كلها لن تفي بربع أحتياجات الشركة , ولن تكون قادرة على سد خمسة بالمئة من ديونها , كنت سأقع في طامة كبرى , لولا قدوم زوجي , الذي وهبني كل ما يسد ديني وينقذ شركتي المفلسة , والذي نبهني لإهم الأسباب المنطقية لخسارتي وهو إن مالي محرم وإن الله يمقت الربا!

ملك رقبتي بتصرفه هذا "لفترة وجيزة" فقد عادت غطرستي ما إن أعدت له ماله , طلبت منه الطلاق , فطلقني من فوري ...
غادر البيت وأنهيت عدة طلاقي وسط أرباحٍ طائلة في شركتي وأخبار إفلاسه بسبب إختلاس بعض الموظفين مبالغ طائلة من شركته , كنت "شيطانة"بإمتياز وقت سمعت عنه إنه يهوي ويهوي ويهوي يوماً بعد آخر دون إن أعرض عليه مجرد عرض المساعدة , بل كنت أتشفى بسماع أخباره السئة وأتلذذ بنكسته وخسارته مع أنه أحسن إلي غاية الإحسان , ولعل سبب افعالي المناقضة لإفعاله هو إنني فعلاً كنت مريضة نفسياً ..
أنتصر على شيطانيتي برحمانيته وحبه للخير .. فقد قبضت الشرطة على المختلسين وعادت حياته لسابق عهدها , بينما بدأ خطوة السفر و الإستثمار في الخارج مع بداية إنحداري نحو الخسارة الكبرى والإفلاس التام بعد إن عدت للمتاجرة بالربا وتجاهل كل ماعلمنيه أياه من حُرمة هذه العملية لعدم عدلها وضررها..

خرجت في المساء متأخرة من شركتي وصادفني متسول طلب مني مالاً فبصقت بوجهه وحذرته من العودة إلى الشركة مرة أخرى , ونسيت عمداً ماعلمنيه زوجي إن الصدقة تُطفأ غضب الله , وركبت سيارتي في المقعد الخلفي وأنا هازئة بكل شيء ..

صباحاً وجدت نفسي في السجن , متهمة بتهمٍ مالية شنيعة , ولا أملك ديناراً واحداً حتى , وخاسرة لكل شيء شركتي , سيارتي , قصري , مالي , أخوتي , ولدايّ , المتملقون! .. كل شيء .. لم أربح سوى عشرة أعوام قذرة في سجنٍ لم أكن يوماً أتوقع إن أقضي فيه ليلة واحدة! ..
خرجت وكنت لا أزال متكبرة , وفي من الغرور ما لايزال غير منكسر .. لجأت لإخوتي الذي أطعمتهم شهد مرارة تعبي ومشقتي فرفضوا وجودي الذي أصبح عاراً , بحثت عن ولديّ ووجدتهما في دار رعاية أيتامٍ خاص لايتقبل حتى مروري عليهما لإني سجينة سابقة , حاولت الألتحاق بإهل زوجي الأول لكنهم لم يستطيعوا تقبلي فدوماً ماكنت أكره وجودهم وإعتبرهم كائنات شبه حية يجب إن لا ألوث كفي بمجرد مسك كأس ماء في مطبخهم المتواضع ..

وقتها شعرت بالتيه , بالفقدان , بالإنكسار , بحق عدالة الله وبجميل جزاءٍ أستحقه , تبت بعد إن خسرت .. توجهت لله وصليت ركعتين .. وما إن سيطر علي سلطان الجوع جلست على رصيفٍ قرب الإشارة الضوئية المرورية ومددت كفي مرتجفاً ...بارداً... خجلأً يستعطي الناس , وسط منِ بعضهم , وكلام البعض آلاخر الجارح , ونظرة الإستعطاف أو الإستهزاء التي تلون وجوههم , من سيقنع هؤلاء إني كنت أملك رقاب مئات منهم ؟! وكيف سيفهمون الدرس الذي رسبت فيه ؟! وكم ممن الوقت علي إن أبقى هنا لكي أستكمل نوال جزائي تحت المطر والحر والبرد؟!

بعد إن أصابني الذل بكل إنواعه , تبرع لي أحدهم بخربة رطبة , مظلمة , عفنة , وسقفها منخور , عشت فيها ولازلت أعيش فيها حتى ليلة الأمس , عندما طُرق الباب ليلاً وفتحته بصعوبة , ورغم إن الظلمة وضُعف البصر أستحوذا علي إلا إني أستطعت إن أميز القادم , كان هو.. زوجي الثاني , الذي دخل خربتي بكل رحمة وأسف , وحاول إن يستنقذني لكني رفضت عطفه بجنون كبريائي الذي أكتشفت إنني لازلت أمتلكه , وحينها نطق بالحقيقة لإول مرة! , حقيقة أذهلتني , وحزت في نفسي المغرورة بأطلال ذكرى مالٍ حرام أعماني عن كل شيء , حتى إن أدرك إن زوجي الثاني كان هو نفسه ذلك المتسول ذي الساق المبتورة الذي كان يستعطيني وكنت أوبخه وأقشعر من قذارته وأزرعه وسط زوبعة غضبي , بالأمس فقط وبعد إن طردته من خربتي إكتشفت إن الله رفعه وغطى كل عيوبه وإغناه لإن نفسه صالحة , وإن الله إنزلني وأهانني لإن نفسي حقيرة , وإن علي إن أغوص بالعقاب هذا حتى نهاية حياتي وسط وحدتي وعماي القادم ..








هناك 5 تعليقات:

ترانيم العشق يقول...

كالعادة تنسجين الحروف بأجمل كلمة وتعبير
شكراً لكِ..
شكراً لقلمكِ..
ودام هذا الفيض الجميل بحق معشوقتكِ

بيلسانهـ يقول...

ترانيم ..

قليلون هم من يقدرون حجم المخاض العسير من الكم الهائل من المشاعر الموائمة لولادة قصة أو خاطرة أو قصيدة .. إنهم "كائنات نادرة" وطالما عانيت من غيابهم ..

لكنكِ وبحمد الله واحدة من هذه الكائنات "النادرة" التي تهتم بنسج الحروف وتقدر حتى ماكان متواضعاً منها ..

أنا سعيدة لإن حروفي تروق لكِ .. وتجذبكِ وإن كانت متواضعة ..

وشكراً لمروركِ الذي أسعدني ..

غير معرف يقول...

إنها عاقبة كل من لايتعظ ..


ونهاية مستحقة .. وسط وحدتها وعماها القادم ..

فهذا جزاؤها .. ترى هل المتسول كائن فضائي لتشعر بالقشعريرة والإشمئزاز منه ؟ ..

إنه أنسان ..


zainab

بيلسانهـ يقول...

زينب ..


مرورٌ عطر ..


إنها تستحق هذه النهاية حتماً ...

بيلسانهـ يقول...

زينب ..


مرورٌ عطر ..


إنها تستحق هذه النهاية حتماً ...