الجمعة، 19 أغسطس 2011

حضــرة المُحـــقق ..

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمدٍ وآل محمد
السلام على مولاتي التي أسير على خُطاها وأرنو لرضا الله تعالى برضاها
(( الصديقة الزهراء عليها السلام ))



هذه ليست المرة الأولى , فقد سبق له وإن مر بهذا الموقف مراراً وتكراراً , وأعتصره إختناق مشاهدته , وتجاذبته إستفهامات وقوعه , ورغم إنه خبيرٌ بإساليب التحقيق وإيقاع المتهم في شراك الإعتراف دون إن يشعر أحس بصغر حجمه أمام هكذا قضية وبدا بإنه يحتاج وقتاً طويلاً لإكتشاف الحقيقة ,
في غمرة إنشغاله بالتفكير لم يأبه لصرخات والد القتيلة وأمر بحملها فقد إنهى الخبراء والمختصون عملهم , وأنصرفوا جميعاً بمن في ذلك هو , صعد بسيارته وقصد المنزل , لكنه كان لايزال مهووساً بالغرابة التي تكتنف القتل والأداة القتل المجهولة ومحاطاً بهالة من الشكوك والأوهام وفي داخله كثيرٌ من التعاطف مع الفتاة وعمرها الذي لم يتجاوز العشرين ,




هكذا هو دائماً أكثر مايجيده التفكير , الصمت , الإنعزال , إيجاد أساليب كلامية ملتوية لسلب الحقيقة من المتهم , وإلإستسلام لمفردة شك يوماً بعد آخر نتيجة ما يتراكم في دماغه من قصص غريبة وحكايا وكإنها ليست على كوكب الأرض بل وكإن فاعليها كواسر لا بشر ! ,




لم ينتبه إن خلفه سربٌ من السيارات التي تحاول إجتياز الشارع ولم يدرِ نتيجة لشروده إن الإشارة المرورية قد تحولت للون الأخضر وإن الطريق مفتوح , شعر بخجلٍ كثيرٍ من نفسه وأسرع بقيادة سيارته وإجتياز الشارع حتى يصل المنزل مبكراً ويأخذ قسطاً من الراحة بالنوم والهرب من الجرائم التي تلاحقه حتى في إحلامه! , ليس في المنزل سوى أمه المرأة المتوسطة العمر وأخته الشابة التي لاينفك يضيق الخناق عليها ويسألها عن كل أسباب أبسط أفعالها  ويتحكم حتى بإتصالاتها وأحياناً يراقب تصرفاتها رغم كل الخلق الذي تتميز به , تصرفاته هذه كانت سبب تأجج خلافات كبيرة وحادة بينه وبين زوجته لدرجة إنه طلقها عندما لم يُفلح بتغيير نفسه والفصل بين وظيفة ظابط التحقيق في العمل و الإنسان في المنزل لدرجة إنه كان ينسى تقبيل ولده لمرة واحدةٍ في اليوم حتى ولم يفلح هذا الفراق بزرع روح الأبوة بين أضلاعه رغم الفراق المستمر بينهما , ولعل السبب إن الأبوة والأمومة غريزة وفطرة وإن فاقدها لاشك مريضٌ نفسياً ! ,




دخل البيت عابساً , وخافت أخته من دخوله المفاجىء وسقط هاتفها من يدها فقد كان حذرها من الإتصال في الساعة الرابعة عصراً , بقيت متسمرة في مكانها بينما التقط الهاتف وسمع صوت طليقته وهي تنادي شقيقته قلقة من إنقطاع صوتها فجأة , ناولها الهاتف وفي عينيه توعدٌ كثير وبين طيات هذا التوعد إنها قد تُحرم من الهاتف لمدة أسبوع أو إن لاتخرج من البيت لإي غرض لمدة شهر أو في أشد الحالات قسوة " صفعة زلزالية " .




أوى إلى غرفته وهو يعلم إن الشك ضرب من سيطرة إبليس على الإنسان والتحكم به وإن الإستسلام لهذا القائد الخطير قد يجعله ينزل إلى الهاوية ويشرب من الجحيم , صحيح إن لمهنته دورٌ في إن يكون ذا نظرة ثاقبة وذكاء خارق وإستقصاءٍ وبحثٍ مستمرين لكن لايعني هذا أكتساؤه بكل هذه الحلل السلبية والتي هي مثلها مثل إي بذرة إبليسية في النفس كالتكبر والغرور والعجب والتفاخر والمراءاة والتي لاتعود على الإنسان في نهاية المطاف إلا بالكره من قبل الآخرين والوحدة ,





مالبث يقلب في عقله صفحات جريمة اليوم وتراءى له شكٌ على درجة عالية من اليقين! إن القاتل شقيق القتيلة , فالكل كانوا على علاقة طيبة بها ماسواه هو وسبق لها إن أشتكت لوالدها منه وإنه تقرب إليها في الفترة الأخيرة ليشعرها بإلأمن وتطمئن له ولايعود أحدٌ يشكُ به إن قتلها , لكن اللغز الوحيد المتبقي والذي يطرد الشك إن شقيق القتيلة مسافر! ,




تذكر منظرها وهي ميتة بقربِ النافذة وهذه النافذة كانت موصدة  بحبلٍ من الخارج و سبق له إن رأى مثله في حاجيات شقيقها , ولإن الدم لايضيع ولإنه يأخذ بصواب هادره فقد أعترف شقيقها بسرعة فضيعة ! ,


لم يأبه هذه المرة لإكتشاف الحقيقة بل تقاذفته الشكوك وهو يستعرض مقولة شقيقها
_ لقد شككت بها , كانت كثيرة الإتصال .



وحين ذلك قرر إن يعود فوراً للمنزل وإن يسلب أخته هاتفها بدلاً من حرمانها منه لمدة أسبوع , دخل المنزل مهرولاً وأوشك فتح الباب لكنه سمعها تقول :
حبيبي , مشتاقة أنا أليك بحجم السماء , متى موعدنا ؟



فتح الباب على هون ولم تلحظ ذلك لإنها كانت تدير ظهرها له , أمسك بتحفة زجاجية كبيرة وثأر لعفة أسمه بضربة على رأسها فسقطت جريحة نازفة , كان منزعجاً جداً لإنها لم تمت ومليئاً بغضبٍ غيرِ مسبوق وفيه كثيرٌ من الحمية ولولا إن جاءت أمه وصرخت ولطمت وتوسلته على إن ينقلها للمستشفى لما فعل ,




وقف إمام غرفة العمليات يسأل الله إن يتفضل  عليه بموتها ولإنه خبيرٌ بالحيل التي تنقذه بصفته القانونية فقد قال للمحققين إنها أنزلقت على السلالم وسقطت على رأسها ولإن أمه لاتود إن يُفتضح أمر إبنتها فقد وافقته الرأي وشهدت معه على ذلك ..




نجت من الموت وضره هذا جداً , فوقف في باب العناية المشددة يرتب أولوياته وهي إن يعرف من الذي تهاتفه أخته , إن يعاقبها على فعلتها , إن يكيد للشاب مكيدة توقعه في حبائل الحبس والعقاب بعيداً جداً عن ذكر أخته , ولما فرغ من زحمة أولوياته جلس إلى جوار أمه , رق قلبه لدمعها ولحزنها ولكفيها المرفوعين للسماء , ورغم إن هذا أسال دمعه إلا إنه سره أيضاً , فلم يكن يعلم إن فيه بقية رحمة وإناسنية وسلام , فقد صرعته قسوة مهنته حتى أعتاد على البشاعة , وكلما كانت  تزداد وعورة غرابة عمله كانت تزداد معها ألفته لكلمة جناية , جريمة , جثة , حتى إنه لايجد مانعاً من سرد جريمة سطو أو قتلٍ  بالكامل على مائدة الطعام !



_ أين هو ؟ , أين المتعلم العاقل , أين حضرة الضابط المحقق؟
تنبه من شروده على كلمات طليقته هذه , فإزداد غضبه وهم بمغادرة المكان إلا إنه منعته وقالت إنها تود إن تحادثه بحضرة أمه




_ أنت مسكين , نعم , مسكين , فيك كل الأمراض الشياطانية الإبليسية , فيك الكبر ( فلبئس مثوى المتكبرين ) , أتدري ماصورة المتكبر إمام الناس ( فلايزال أعظم الناس في نفسه وأصغر الناس في أعين الناس ) , فيك الغضب و( الغضب مفتاحُ كل شر ) , فيك سوء الظن والشك , و( إن بعض الظن أثم ) , مالذي أستفدته من الحفاظ على كل هذه السلبيات ؟ وإلى أين تمضي بكِ ؟ وحتى متى إن تستسلم لها ؟ , إلا يكفيك إنك خسرت زوجتك وأبنك ؟ , إلا يكفيك إنك تُثير الرعب في قلب من حولك ؟ , إلا يكفيكِ إنك تائه ! , لا تدري ما أنت ولم أنت وكيف أنت ؟!




أخذت نفساً عميقاً ثم أستخرجت هاتفها النقال وأسمعته الحوار التالي
_ عمتي كيف حالك ؟
_ حبيبي , مشتاقة أنا أليك بحجم السماء , متى موعدنا ؟




نهض مليئاً بالإنكسار محشواً بالخجل صغيراً أمام نفسه قبل إن يكون صغيراً أمام طليقته وأمه , لقد حاول قتل إخته على مجرد سوء ظن وعدم نباهة وتعجل وعصبية وغضب ! , لقد إكتشف إنه مُخطأ بتصديق وحمل كل مايمليه عليه عمله إلى داخل بيته , فالبيت بيت والعمل عمل , خاصة عندما يكون عملاً حساساً كعمله , أدار وجهه خجلاً لكنه رأى أمه وطليقته قد رحلتا وتركتاه وحده ..!

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

الشك كابوس .. ولاريب إن صاحبه مصابٌ بحالة نفسية ..!

بيلسانهـ يقول...

أحسنتم وإن لم يعالجها فسيندم .. لإن الشك يعرقل بناء حياة سعيدة ..