الخميس، 25 أغسطس 2011

جروحٌ مستعارةٌ

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمدٍ وآل محمد
السلام على مولاتي التي أسير على خُطاها وأرنو لرضا الله تعالى برضاها
(( الصديقة الزهراء عليها السلام ))





هذه هديتي لجنوب لبنان ..





_ علي , اجلس إلى جوار زميلتك فرح .
قالت الإستاذة ذلك لتتحاشى غش زميله مناف قبل بدء الإمتحان , نهض بإدبٍ فور إن سمع الأمر , بدا مسرعاً لكن داخله كان متثاقلاً من جوارها ليس لشيء سلبي بل لهيبتها وعفتها اللتين طالما كانتا أمنيته التي حملها في قلبه ما إن وصل من لبنان طالباً الإلتحاق بكلية الإعلام في جامعة بغداد .




أستولى عليه الإرتباك , جلس على مقعده الجديد وألصق بصره بالأرض كما أعتاد رعاية لشريعة الله وإكراماً لخلقِ مجاورته  , ملأ الورقة بالإجابات وسلمها ثم خرج متعجلاً متحججاً بإنه مرهق ,

لقد كان مرهقاً حقاً لإنه في بغداد منذ ثلاث سنوات تقريباً , لقد أحب هذه المدينة وأحب تؤام الموت والحياة المتمخضين عن رحم صباحاتها , لقد لامس قلبه شفافية قلب شعب عطوفٍ وسرعان ماينسى ونسيانه هذا نقمة أحياناً .






لايستطيع تصور مفارقته قبر أسد بغداد وحفيده , ومن سيحشو ثغرة شوق قلبه له ولروحانية زيارته يوم السبت ؟ , إنه بين لسعتين : لبنان وطن دون بغداد أحبها وبغداد أحبها دون لبنان وطن !
مر الوقت كالحلم "لإنه سعيد " , واقبل حزيران ملقياً بظلال التخرج عليه وعلى زملائه , وإجبارهم على التفرق والرحيل في إتجاهات شتى وولوج حيز جهنم المسؤوليات وطي صفحات الفراغ من أي حملٍ على الأكتاف المتلهفة للغد ,

 في اليوم الأخير أمضى وقته مع صحبه بالبكاء والعناق ومحاولات الهروب قدر الإمكان من الواقعية المؤلمة , كان وأياهم في حالة تجاهل لمايسمى "الوقت" ولاشك إنه تمنى توقفه أو عودته إلى الخلف كي لايتبدد هذا الجمع المبنى على الأخوة والتعاون والمشاركة , شاركه بعض إساتذته حزنه وواسوه وأعلنوا له شوقهم المسبق له قبل مغادرته وأقنعوه بإن مرحلة الجامعة وجمالها إذ إنتهت فستسفر عن مرحلة أجمل , لإن الحياة تسير بهذا النمط فلكل مرحلة لذة وجمال ,







في خضم ضوضاء الفراق تذكر إن لديه أمنية وإن حبه للعراق ومرحلته المهمة هذه يجب إن لاتنتهي بهذه الطريقة الروتينية وإنه لن يتنازل عن عبق القداسة ودوحة الملكوت وهي تورق رحمة في كربلاء والنجف وسامراء والكاظمية والكوفة , فقرر إنه باقٍ هنا وإن العراق وطنه , فالوطن أرض تُشعر بالرحمة والدفء وتدس في داخل الإنسان أملاً وروحاً وتعلمه على الإيثار والشعور بإوجاع الآخر وتمنح كفه قدرة على مسح الدموع , وتتقبله وتزرعه بذرة في أرض أهلها وتخيط له من ثوب فقرها جلباب هيبة يحدث كل العالم عن إن المواطن ملكٌ في أرضه .. 







لقد جلب من معه من مارون الراس هدية للعراق وهي تطبيقه لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ) وإيمانه بقول صادق إهل البيت عليهم السلام ( ثلاث لايضر معهن شيء : الدعاء عند الكرب , والإستغفار على الذنب , والشكر عند النعمة ) , وبين هذا وذاك حفظه للقرآن الكريم عن ظهر قلب وهدوءه وإنشغاله بدراسته , صفاته هذه وإعتماده على إعتدال المجتمع العراقي وخاصة في بغداد جعلاه يقرر التقدم لخطبة فرح في مساء حزيراني حارٍ ورطبٍ جداً , لكن ..
صعقه الرفض فقد كان يتوسم خيراً , حتى إنه لم يتوقع ذلك مباشرة بل كان يتصور وعلى سبيل المجاملة إن والدها سيطلب فرصة للتفكير , قاده حزنه إلى دجلة ووقف على جسر الصرافية يتعمق بجمال الليل البهيم منعكساً على مجرى النهر , ومتألماً من مجتمعٍ لايزال يجهل مصلحته , فالأساس في الزواج هو ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ) , والدين والخلق لايُشترط إن يكونا حكراً بإبن البلد فقط , والتفاهم هو الذي يحكم الحياة في البداية والنهاية وربما كان معدوماً بين زوجين من نفس الجنسية , لكن آفاقاً واسعة من الأمل والحب والود والسعادة قد تنتظر أثنين بين بلديهما أميال من الثقافات واللهجات والعادات والمدن , لقد غادرته السعادة وهاج به الحنين إلى لبنان , لإن حلمه في العراق قُتل ولم يعد له مكانٌ فيه ,
حزم أمتعته وفاجأه قدوم زميله مناف متعجلاً متلهفاً
_ هل أهلك بخير ؟ , لقد شُنت الحرب على لبنان!
حمل حقيبته مسرعاً وهرول دون أي نطق , تبعه صاحبه مندهشاً من إصراره وحميته
_ إلى أين ؟
_ إلى الشهادة .
_ نوال الشهادة سهل, فمن مات على حب محمدٍ وآل محمدٍ ماتَ شهيداً .


_ أريد الشهادة هناك دفاعاً عن الجنوب , البقاع , الجبل , الأرز , الضاحية , بيروت الجميلة .
_ أنت تُلقي بنفسك إلى التهلكة , ستموت فور دخولك لبنان
 وسيذهب عُمرك سدى دون شهادة .
_ الأعمال بالنيات .



عوقه القدر , فليس ثمة رحلات إلى بيروت لإن في العراق (وقتها ) مايكفي من الموت لذا فليس لهذا البلد قدرة على فقد مزيد من إبنائه المسافرين إلى هناك لغرض العمل أو العلاج أو الإقامة , ولا حتى رحلات إلى سوريا قبل إسبوع على الأقل لإنها تغص باللاجئين , ضرب على أحد جدران المطار بقوة وهو يستمع إلى إخبار الموت والخراب والقصف والظلم وهي تطال الجنوب الأشم وتفتك بجماله , بخضرته التي تشفي العليل وبطيب هوائه الذي ينعش النفس , بالبيوتات الجميلة المتوزعة على التلال , بالأحلام , بالأمنيات , بالغد , بالطفولة  , ورغم إن نيران الحرب كانت قاتلة إلان الأشد فتكاً منها هو " السكوت وأغلاق الأفواه بالشمع الأحمر " 












أسبوعٌ آخر من الإنتظار أنهك قواه وأخبار أهله مقطوعة عنه والإتصال شبه منعدم والضاحية تحتضر على وقع الموت في مارون الراس حيث أمه وأبوه وأخوه عباس , كان لايملك حولاً ولاقوة للإطمئنان عليهم وليس قادراًَ على الإلتحاق بهم , كان اشبه بمجنون في ثوب عقل وميت في كفن حياة , يسهر الليل  متسهداً متقلباً بين سجادته ودعاء أهل الثغور وبين التلفاز وصور وأصوات الحرب والضرب ,





هوت مسبحته من يده وضرب رأسه بالجدار بقوة فإن كان للكبار ذنب فلماذا تُشنق الطفولة بحبال القذائف والصواريخ والقنابل ؟ , لقد كانت طفلة صغيرة بنت تسع سنوات , جميلة بيضاء كثلج جبال لبنان وبجديلتين صفراوين كلون أشعة الشمس صباحاً في مزارع شبعا , أما عينيها فخضراوين مثل الجنوب المحشو بالخيرات والثمار , لقد ماتت هذه الطفلة جراء القصف , لكنه أنتبه , وخفق قلبه خوفاً على أهله هناك , لقد تذكرها إنها إبنة ( المسحراتي ) الذي كان بيته آخر بيتٍ في مارون الراس وأقربها إلى الشريط الحدودي مع العدو , عندما غادر لبنان كانت لاتزال بنت خمس سنوات ونيف , لايزال يحتفظ ببعض صورها وهي تأتي لبيتهم تحمل من طبخ أمها أطباقاً من (التبولة والفتوش) في رمضان بينما تملاً لها أمه أطباقاً من المشبك والعشيبيات , وتغادرهم مسرعة تقصد الوصول إلى منزل ذويها على التلة قبل إن يطلق مدفع الإفطار قذيفته و تتجمع عائلة علي حول المائدة بإيمان ورحمة وبركة و دعاء والديه ومزاح شقيقه عباس وحكمته في آن واحد ..





أخيراً حصل على رحلة إلى بلده مباشرة عن طريق السفارة العراقية التي ستجلو رعاياها من بيروت المتشظية , بدأت الرحلة جواً في السادسة عصراً ,
 وصل وثكله الوضع , لقد شم رائحة الحرب وأحس بوحشة إمتلاء الأرض بالموتى والأحياء , تناثرُ الخراب وشيوع الدمار والإحساس بغياب الإطمئنان والظلم وأصداء صراخ الصغار والظُلمة والصمت إلا من الطائرات وهي تعادي كل شيء حتى الله ..!
لم يجد سبيلاً للوصول إلى الجنوب , بل كان الجميع يضحكون من طلبه الغريب هذا! , حاول الإتصال بذويه دون جدوى , قصد شقة خالته في الضاحية الجنوبية وعاد من منتصف الطريق فالضاحية كانت هدفاً رئيسياً ..











أفترش سجادة صلاته على الرصيف في منطقة آمنة شمال بيروت ورفع يديه تضرعاً لله
_ آلهي , أرزقني شرف المقاومة .
ربت أحدهم على كتفه , كان رجلاً في الستين من عمره
_ المقاومة أنواع , مقاومة بالسلاح , بالعلم , بالخلق , ببر الوالدين , بمسح دموع اليتامى ..!
_ لكني مللت المقاومة بعلمي ولساني , أريد المقاومة بسلاحي .
_ هكذا أختارك الله .. , أتجيد اللغة الفرنسية ؟
_ والأنكليزية أيضاً , أنا خريج كلية الإعلام جامعة بغداد .
_ قاوم بلسانك الفرنسي .
_ لكن !!
_ يابني , إن أغلب العالم ضدنا , والبقية القليلة تُقسم إلى قسمين , القسم الأول محايدٌ وصامت , والقسم الثاني فصنفان : صنفٌ معنا بإلسنتهم وقلوبهم , وصنفٌ معنا بقلوبهم لكن خوفهم من الظلم والقهر خنق حناجرهم وحز رؤوس حبالهم الصوتية , .. , أتدري لماذا ؟
_ لا !
_ لإن لاصوت مقاوم معنا .. هيا معي ستعمل إعلامياً ناطقاً بالفرنسية ومقاوماً بلسانك ..






بقي كذلك حتى صدر قرار مجلس الأمن ووزع فرحة النصر على إرجاء لبنان وقال إن من مع علي لن يناله خذلانٌ أبداً , وإن هيهات منا الذلة هي الأداة السحرية لتحقيق النصر , وإن اليد التي لا تُصافح الظلمة تحول إلاطلاقة النارية إلى صاروخ يقتل عشراً بدل العدو الواحد , هكذا هو طريق الحق مذهلٌ رغم قلة سالكيه لإن من فيه يؤمنون بـ(إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين ),
لايزال لايعرف شيئاً عن أهله , وما إن توقف القصف حتى قصد مارون الراس , كانت فيها ضجة وبقايا ألم لفقدان شخصٍ عزيز على أهلها , كان الإنقباض بادياً عليه ومستفحلاً في تملك قلبه وقت دخولها , رفع بصره شوقاً لمنزل أهله لكنه رآه ركام ! , ذُهل وبدأ يرتجف ركض بسرعة يشق الرياح العالية حينها ولم يرَ غير الأطلال , دار حول نفسه صرخ :
أبي , أمي , عباس ..




شيء ما أشبه بلسعة أفعى حنان عصفت بقلبه ما إن تلفظ أسم شقيقه "عباس" , وبلا وعي نظر خلفه حيث بيته ووجد بابه مفتوحاً على مصراعيه وثمة أصوات تلاوة سورة ياسين تأتي من الداخل ,
بين أمل حياته ورجاء عدم موته قطع الخطوات مسرعاً مجنوناً إلى بيته , حاول إن يتجلد وهو يرى النسوة يصبرن على زوجته يسألنها مزيداً من التحمل , صرخ بها وكإنه يريدها إن توقظه من كابوس موته على بشرى حياته
_ ماذا حدث ؟
_ لقد أُستشهد عباس ..!
تجلد , وترحم عليه , فهو شهيد , ماضٍ إلى رسول الله مضرجٌ بدمه وظلامته , شعر بإن أمرأة تناديه من الخلف تنبه لها وناولته طفلة صغيرة مقمطة وقالت :
إنها يتيمة الشهيد , إسمها فرح وُلدت قبل أسبوع , أمضِ بها إلى الجبانة وأتبع الدافنين حتى تتصبر أمك برؤياها ولاتزهق روحها بعد روح عباس ,
هم إن يسقط على الأرض من هول المصيبة , فقد خلا البيت من أخيه وجدب من زحمة صوته الشامخ , بدون سابق إنذار غاب وترك وحشة في قلبه وفراغا في روحه وكسراً في ظهره , ستخلو الحياة من ضحكاته ووجوده وستغيب إبتسامته ولن يسعه إن ينساه أو يطرد أطيافه , كم أحب لحظتها إن يراقب قسماته وتفاؤله في ألبوم الصور لكن أنى له ذلك والعدو أحرق حتى ارشيف الذكريات وصادر بقصفه وحرقه المنزل حقه بالإحتفاظ ببقايا رائحة الأحبة وشمها متى أحس بالوجع , تمنى لو إنه مات قبل هذا , فالحياة بعد الأخوة ورحيلهم ليست سوى نهرٌ من الجحيم وحتى يعتاد على الرحيل يكون قد خسر نصف وجوده وذبلت نصف روحه ,







قبل إن يقدم إلى بلدته أملى عليه قلبه أرتداء السواد لذلك كان مستعداً للحاق بالدافنين , لكنه مد يده إلى جيبه وأخرج عصابة سوداء كُتب عليها يا أبا الفضل العباس قبلها وأستذكر المعشوق الحسين وقال وهو يشدها على جبينه
_ سيداه , حبيباه , كيف فارقت عباسك ؟
ثم تحفى وحمل صغيرة أخيه اليتيمة , مشى يسحق حطام البيوت وشظايا القصف , ورماد الحرئق , جرت الدماء من قدميه وصل للجبانة سريعاً وبلغ مدفن عائلته , قدم الصغيرة لإمه ثم قبل يديها ويدي والده وهون عليهما وأعادهما للبيت ,








لم يكفِ للدهر إنه أذهب بإخيه فالحياة بدت أكبر من إحلامه وأمنياته وعليه إن يكون رجلاً قادراً على حمل مسؤولية أنه آخر ذرية أبوين مثكوليّن وأخ شهيد , كان عليه إن ينظر بعيني قرار شفاء جرح أخيه ببعده عن طفلته وشفاء جرح يُتم طفلته وعليه إن يستعير الجرحين ويكون همزة الوصل بين الشفائين وذلك بالوقوف إلى جانب إرملة أخيه وبذل جهده لحمايتها ومساعدتها وإحاطة "فرح"بذراعي الأبوة والحنان ويمسح عنها دموع اليتم كما إن عليه طلاق كل أحلامه , ورغم إن حياته الجديدة لم تكن سعيدة جداً إلا إنه كان يقاوم بصبره لكي تكبر فرح وتُزرع الإبتسامة على خديها , فإبتسامتها وتألقه في عمله هو كل مايستطيع إن يسلي به نفسه وينتظر به الغد , إنها الحرب الظالمه , جبروتها قاتل للإحلام وغائل للأماني وسارق للحياة , ومفرقٌ ومبدد , وعندما تحل فإنها تزرع الموت في الطرقات وتخبىء المرارة بين البيوتات وتأسر الأمن بعد إن توزع الخوف حتى في الجدران  , إنها الكابوس المحرم ..!






وبعد عامٍ لتركه العراق :
_ أحمل لك بشرى , لقد وافق والد فرح , لقد أعجبه أيمانك وجهادك بلسانك بعد إن رآك في التلفاز  .
كانت فرح الصغيرة جالسة في حضنه , مسح على رأسها وقبلها ثم أجاب صاحبه
_ حزني أكبر من فرحي , وواقعي أقوى من أحلامي , والحياة أكبر من أمنياتي ..! .
غفت الصغيرة في حضنه , رأى إشراقة الملائكة في جبين براءتها , شم منها عبق عباس وطبع على كفها قبلة تحملها النسائم إلى قبره لتطمئنه إن يتيمته بخير ..

النهاية ..



(يسرني نقدكم , لإنه يفيدني )  

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

سيبقى لبنان ابياً حراً ..

بيلسانهـ يقول...

بإذن الله .....